الثلاثاء، 14 يونيو 2016

محمد علي كلاي ( الأعظم )


محمد علي كلاي

الأعظم
                                                       بقلم د. تـامـر أحـمـد

سُرقت دراجته وهو في الثانية عشرة من عمره فأصبح بطل العالم في الملاكمة .. لماذا لم يسرق أحدهم كُرتي وأنا طفل ؟!

ولد البطل ( محمد علي كلاي ) في 17 يناير 1942 باسم ( كاسياس مارسيلاس كلاي ) بمدينة

" لويس فيل " بولاية كنتاكي الأمريكية , لأسرة زنجية أمريكية من أصل أفريقي , وظل يعاني كزنجي من التفرقة العنصرية الشديدة أيامها , وكان يتأثر جدا بوجود مطاعم ودور سينما والعديد من الأماكن المخصصة للبيض فقط و محظور علي الزنوج ارتيادها , جعله هذا يتجه إلي بناء جسده والتردد علي صالات الألعاب البدنية , كوسيلة لنيل حقه بيده إذا دعت الحاجة , مما جعله يحظي بجسد قوي بالمقارنة بأقرانه .

في الثانية عشرة من عمره كان مع أحد الأصدقاء في قاعة محاضرات , وعندما خرج فوجيء بسرقة دراجته , ولك أن تتخيل حزن طفل كهذا علي دراجته الأثيرة .. قد تكون هي دراجته الأولي في حياته.. ومن الجائز أنه عمل أياما طويلة لادخار ثمنها .. كان حزنه عليها شديدا .. ويومها في أحد صالات الألعاب البدنية قابل رجل شرطة سابق, حكي له عن الواقعة ثم أردف في ثورة " لو أمسكت سارق الدراجة .. سأسحقه " فكانت الجملة التي غيرت مسار حياته " ينبغي أن تتعلم أولا كيف تلاكم " .. لم ينم ( كلاي ) ليلتها وحين طلع النهار كان قد نوي أن يتعلم الملاكمة .. وفي غضون أسابيع قليلة كان علي موعد مع مباراته الأولي .. وفوزه الأول .. انتشي ( كاسياس ) بهذا الفوز الذي أضاء له طريقا جديدا ليسلكه , فوهب نفسه تماما للملاكمة والتدريب الشاق والمستمر , وبعكس كل أقرانه فلم يعرف اللهو أو تضييع الوقت أو حتي العمل , كانت الملاكمة هي نشاطة الرئيسي .. بل والوحيد كذلك , كان يتدرب ويلاكم ثم يتدرب ثانية , وكان مخلصا للملاكمة فبادلته ذات الإخلاص , فحقق ( كاسياس ) 127 نصرا في مباريات الهواة  , وبدأ البعض يري فيه بطلا مستقبليا , وبالنظر إلي ما حققه من بطولات محلية في فترة قصيرة نجد أنه بالفعل كان قد بدأ التحول إلي بطل , ففي سنوات قليلة وقبل أن يتم عامه الثامن عشر كان قد فاز بـ 6 ألقاب لبطولة " القفاز الذهبي " بولاية كنتاكي , و لقبين " القفاز الذهبي " علي مستوي الولايات المتحدة كلها , بالإضافة إلي لقبين لبطولة " الاتحاد الرياضي للهواة " .. عشرة ألقاب وأكثر من 150 انتصار في ستة أعوام .. هل للبطولة معني آخر ؟!

كل هذا أهله ليمثل الولايات المتحدة في أولمبياد روما 1960 ليحقق المفاجأة ويضيف نصرا آخر لسجله بالحصول علي الميدالية الذهبية بعد شهور من إتمامه عامه الثامن عشر .

عاد بعدها إلي الولايات المتحدة فخورا بانتصاره العظيم , متوقعا أن يحظي بمعاملة مختلفة وأن يُنظر له كبطل بغض النظر عن لون بشرته .. وكان مخطئاً .

وجد أن البيض مازالوا ينظرون له كزنجي , حتي بوجود الميدالية الذهبية حول عنقه .. كان مازال ممنوعا من ارتياد بعض المطاعم والأماكن العامة وذُكر في الكتاب الذي صدر عن قصة حياته

 " الأعظم " أنه  بعد أن رُفض دخوله لأحد المطاعم  غادره ثائرا وألقي بميداليته الأولمبية في نهر أوهيو, أصابه هذا بالحنق الشديد وقضي أياما في عزلة حزينا علي الوضع السائد في بلاده .

ولكن لم يمنع هذا بعض رجال الأعمال " البيض " الذين يشكلون مجموعة لرعاية الأبطال من التقاطه ورعايته .. فقد تأكد لديهم أنه استثمار رابح للغاية !! , اتفقوا مع المدرب المخضرم ( أنجيللو داندي ) ليقوم بتدريبه وإعداده للبطولات في صالته الخاصة , وهناك  سخر منه اللاعبون للوهلة الأولي لضآلة بنيانه ( بالنسبة للاعبي لوزن الثقيل وقتها و الذين كانوا يشبهون أوناش المقاولات) إلا أنه أخرسهم جميعا في المباريات التدريبية والتي كان يفوز فيها كلها , وقد ابتكر أسلوبه الخاص في الملاكمة , فقال عنه مدربه أنه كان ( صائد الرؤوس ) , فهو لا يضيع مجهوده في توجيه ضربات لجسد منافسه .. لأنها غير مؤثرة كالضرب في الرأس , ويبدو أنه قد سمع بالمثل الشعبي المصري

( ضربتان في الرأس توجعان ) فما بالك لو أن الضربتان كانتا من ( كلاي ) نفسه !! , كما أنه كان لا يرغب في الاقتراب كثيرا من خصمه حتي يظل بعيدا عن ضرباته .

بالإضافة إلي هواية ( صيد الرؤوس ) كان يتميز علي الحلبة بشكل وأداء جديدين تماما علي لاعبي الملاكمة .. فكان " يرقص " علي الحلبة .. لا يستقر في مكان , بل ولا يستقر علي الأرض أساساً .. حتي أن البعض قال عنه أنه ( يطفو ) – بالمعني الحرفي للكلمة –  علي الحلبة , من كثرة ما يجري ويناور ويقفز , مستغلا أقدامه القوية والتي تعد أقوي عضلات قدم في تاريخ الملاكمة  فهو يقفز ثم يبدل أقدامه بسرعة مذهلة وفي لحظة .. تكون الضربة القوية لرأس المنافس .

العنصر الثالث في أسلوبه هو ( الصوت ) , فهو يحدث منافسه في الحلبة ويستفزه ويشتت تركيزه أيضا, كما أنه اهتم بوسائل الإعلام في وقت اكتفي فيه كل الملاكمين بالتعامل مع الإعلام عن طريق مديري أعمالهم .. كان ( كلاي ) يتصل بهم بنفسه , ويطلق التصريحات النارية والمتحدية كذلك , منها ( لأثبت أنني عظيم سأسقطه في الجولة الثامنة ) وهي جملة مسجوعة بالانجليزية

( To prove I’m great , he’ll fall in eight )  , بخلاف كلمته المشهورة عقب كل مباراة

 ( أنا الأعظم ) .

تدرب ( كلاي ) مع مدربه الجديد بكل جدية , الذي كان يعده للقاء هام للغاية  مع الملاكم المرعب

( سوني ليستون ) بطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل .. وهو اللقاء الذي كان يحلم به ( كلاي ) منذ احترف الملاكمة .. فأخذ يتدرب بحماسة زائدة استعداداً للقاء .. حين التقي بالكابتن ( سام ) , وهو اللقاء الذي غير مسار حياته تماما .

كان كابتن سام أو (عبد الرحمن سام ) هو ممثل مجموعة مسلمين في أمريكا يطلق عليها ( أمة الإسلام ) هدفها نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ودعوة أكبر عدد ممكن للدخول في الإسلام , وقد التقي بـ ( كلاي ) في ميامي أثناء استعداده لخوض مباراة ( سوني ليستون ) , و وجد لديه خلفية عن التعاليم الإسلامية ولمس فيه استعداده لسماع المزيد , فتكررت لقاءاتهما في مسجد ميامي حيث كان المقر الرسمي لجماعة ( أمة الإسلام ) تعقد فيه محاضرات التوعية بالدين الإسلامي , حتي اقتنع

( كلاي ) تماما باعتناق الإسلام , إلاّ أنه لم يعلن الخبر للعالم حينها , وواصل استعداداته للقاء الهام والمرتقب .. لتحقيق الحلم الأكبر .. لقب بطولة العالم للوزن الثقيل.

 وبرغم كل المضايقات التي اعتاد عليها ( كلاي ) مثل أن اللجنة المنظمة للمباراة قد حجزت له غرفة في فندق متواضع في ميامي , وهو لم يكن فندقا بمعني الكلمة .. بل نُزل مخصص للزنوج , بينما نزل ( ليستون ) في فندق فخم علي شاطئ ميامي .. إلاّ أن هذا لم يشغل حيزا في تفكير ( كلاي ) , كل ما كان يفكر فيه هو معرفة الكثير عن الإسلام و التدريب للمباراة .
وفي اليوم المرتقب 25 فبراير 1964  احتشد المشاهدون ليشاهدوا ذلك المجنون ذو الجسد الرشيق الذي قرر أن يتحدي ( ليستون ) ذو الجسد اللوري ..حتي أنه قال في أحد تصريحاته قبل المباراة

" إن ( سوني ليستون ) قبيح جدا ليكون بطل العالم في الملاكمة " ,  وافترض الجميع أن ( ليستون ) سيقتله .. واستغل ( كلاي ) هذا وسرب معلومات لمعسكر ( ليستون ) أنه خائف إلي درجة الموت .. مما دفع ( ليستون ) ليبني خطته علي إنهاء المباراة في ثلاث جولات علي الأكثر .. وهو ما توقعه

( كلاي ).. وتمر المباراة سجال بين الطرفين , وبعد انتهاء الجولة الثالثة فوجئ الجميع بـ ( كلاي ) يصرخ في وجه ( ليستون ) صائحاً " الآن أيها السفاح سأنال منك " حتي حان موعد ( كلاي ) مع المجد في الجولة السابعة من المباراة .. حين هم ( ليستون ) بتوجيه ضربة قوية تفاداها ( كلاي ) وناوره ,  ثم وجه ضربة ساحقة وقع علي أثرها البطل اللوري .. فاز ( كلاي ) بالقاضية وحقق حلمه القديم , وأصبح بطل العالم في الملاكمة وهو في الثانية والعشرين من عمره .. أي مجد هذا

بعدها أعلن ( كلاي ) للعالم اعتناقه الإسلام واتباعه لتعاليمه , ليفتح النار علي نفسه ..

فبعد أن كان بطلا , أخذت الصحف الرياضية المأجورة تصوير هزيمة ( ليستون ) بأنها أسوأ ما حدث في تاريخ الملاكمة , وتشكك في قدرة ( كلاي ) علي الاحتفاظ باللقب , ولكنه خيب آمالهم جميعا و حافظ علي اللقب ضد كل من سولت له نفسه الاقتراب من لقبه , وعلي رأسهم ( ليستون ) نفسه الذي ملأ الدنيا صياحا وضجيجا أنه سينتقم وسيلقن ( كلاي ) درسا قاسيا ودعاه للقاء آخر في العام التالي 1965.. إلا أنه نال هزيمة مذلة بعد أن أطاح به ( كلاي ) بالضربة القاضية من الجولة الأولي ليظل اللقب في دولاب ( كلاي ) .

وكانت جماعة ( أمة الإسلام ) قد اختارت لـ ( كلاي ) اسما يدل علي هويته الإسلامية الجديدة ليتحول ( كاسياس مارسيلاس كلاي ) إلي ( محمد علي كلاي ) , وقد أبدي ( كلاي ) أو ( علي ) كما كان – ومازال – يفضل أن يطلق عليه ( واسمحوا أن نطلق عليه " علي " من الآن فصاعدا ) سعادته البالغة قائلا :  ان تغيير اسمي كان واحداً من اهم الاشياء في حياتي. فقد خلصني من هوية اعطيت لأسرتي من قبل اسياد العبيد فقد كان ( كاسياس ) اسم أحد الرجال البيض و الذي كان يملك جدي , وأطلق علي جدي ذات الاسم بالتبعية . وأنا لا أعتقد أن هذا يؤذي أحد .. أو يضايق أحد , فالممثلون والممثلات يغيرون اسماءهم ولا أحد يعترض. واذا كنت قد غيرت اسمي من ( كاسياس كلاي ) إلى ( سميث ) أو ( جونز ) ، لأني أردت اسما يعتقد البيض انه اكثر اميركية، ما كان هناك شخص يحتج على ذلك. فأنا فخور جماعة ( أمة الإسلام ) قد اختارت لي اسما جميلا، فـ ( محمد ) هو اسم الرسول الكريم وهو يعني استحقاق الحمد، و( علي ) أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفة المسلمين الرابع بعد وفاة الرسول الكريم. وأصبح الآن اسمي ( محمد علي ) .

قوبل هذا الإعلان برفض إعلامي شديد وسط توقع – واندهاش – ( علي ) , وحدث أنه كان يشاهد مباراة ملاكمة هامة , ودعي مع بعض الملاكمين المعروفين لتقديمه علي الحلبة , ولكن رئيس قطاع الملاكمة رفض أن يقدم ( علي ) بأي اسم آخر بخلاف المقيد برخصة ممارسة الملاكمة ( كاسياس كلاي )  فهدد ( محمد علي ) بمغادرة المدرج اذا استخدم اسمه القديم في تقديمه مع الملاكمين الآخرين على حلبة الملاكمة. وبالفعل نفذ علي تهديده وخرج على صيحات استنكار الجمهور.
و توجه بعدها ( محمد علي ) بخطاب للجمهور جاء فيه : إن كل ما أريده هو السلام , أريد السلام لنفسي وأريده للعالم. إنني لا أكره أحدا، أسود أو أبيض. إنني فقط أريد أن أعيش مع  أهلي الذين اخترتهم , فهل هذه جريمة. وأتوجه للجميع برسالة , أتمني أن يقبلوا دعوتي للسلام والمحبة , فإذا أحبوني فأنا أحبهم .

جاء عام 1967 لتدخل الحرب في فيتنام منعطفا آخر , وتحتاج الولايات المتحدة لتعزيزات , ويُطلب ( علي ) للتجنيد , كان ( علي ) متابعا للأحداث ورافضا للوضع في فيتنام انطلاقا من معتقداته الإسلامية والتي ترفض الاعتداء علي شعب آمن , فرفض الانضمام للجيش الأمريكي آنذاك , وعلل هذا قائلا " كيف لبلد تنادي بالحرية أن تسطو علي حرية شعب آخر " لم يعرف ( علي ) أن الحرية في أمريكا مجرد تمثال !!

وجدت وسائل الإعلام في رفضه للانضمام إلي الجيش فرصة للانقضاض عليه وتشويه صورته أمام الرأي العام فهاجمته هجوما شديدا واتهمته بعدم الولاء والتخلي عن الوطن , إلا أن كل هذا لم يجعله يتراجع عن مبدأه , وكان صلبا شديدا في الدفاع عن آرائه ومعتقداته , وصمد أمام القرارات القاسية التي قررها اتحاد الملاكمة بإلغاء جميع مبارياته القادمة وإيقاف رخصته لممارسة الملاكمة فكان آخر لقائين له في عام 1967 لقاء ضد ( إيرني تيريل ) والذي استفز ( علي ) جدا حين ناداه بـ ( كلاي ) فانقض عليه ( علي ) في ثورة وانهال عليه بلكمات ساحقة وأعقب كل لكمة بسؤال واحد ( ما هو اسمي ) .. لكمة .. ( ما هو اسمي ) .. لكمة .. وهكذا حتي الجولة الخامسة عشر حين رحم الحكام

( تيريل ) وقرروا فوز ( علي ) باللقاء .. أما آخر لقاءات العام فكان في 22 مارس ضد ( زورا فولي ) وحسمه بالضربة القاضية في الجولة السابعة , لتكون هذه هي المباراة العاشرة التي يخوضها دفاعا عن اللقب في ثلاث سنوات وقد فاز فيها جميعا .. بعدها توقفت لقاءات ( علي ) تماما وواجه الحصار , تم سحب اللقب منه , وصودر جواز سفره , كما حكم عليه بغرامة مائة ألف دولار , لكن أقسي ما واجهه هو حكم بالسجن لمدة خمس سنوات !!

امتثل ( علي ) لحكم المحكمة , وظل قرابة عامان ونصف حياته متوقفة تماما , إلي أن جاء عام 1970وتغير الرأي العام الأمريكي وخرج ( علي ) من السجن – بعد قضاء نصف المدة –  متشوقا للعودة إلي حياته .. الملاكمة , وطلب من مدير أعماله تنظيم عدة مباريات له حتي يتمكن من استعادة لقب بطل العالم , ولعب مبارتان في عام 1970 فاز فيهما بالضربة القاضية في الجولة الثالثة , والخامسة عشر .

لكنه لم يصبر حتي يستعيد كامل لياقته , وطلب مواجهة من أجل اللقب , فكان لقاءه مع ( جوي فريزر ) عام 1971 , وبرغم عدم اكتمال لياقته إل أنه قاتل ببسالة وقاوم حتي الجولة الخامسة عشرة , ولم يستطع ( فريزر ) أن يهزمه بالقاضية , لكنه هزمه بالنقاط بقرار لجنة الحكام .

عرف ( علي ) أن فترة غيابه قد أثرت عليه , وعلي أقدامه بالأخص , فلم يعد يستطيع " الرقص " كما كان يفعل سابقا , وعرف أن عليه أن يبذل جهدا مضاعفا ليستعيد لقبه المفقود , و قد كان ..

فخاض بعدها أربعة عشر لقاء هام وفي غاية الصعوبة فاز فيها جميعا عدا واحدة فقط , كان آخرها لقاء مع ( جوي فريزر ) نفسه مرة أخري وهزمه ( علي ) في الجولة الثانية عشرة .

إلي هنا , وفي عام 1974 كان العالم علي موعد مع مباراة تعد هي الأهم في تاريخ ( محمد علي ) في الملاكمة , كانت مباراة لاستعادة اللقب الغائب منذ زمن وبالتحديد منذ سبع سنوات , كان الملاكم ( جورج فورمان ) هو بطل العالم وقتها بعد أن دحر ( جوي فريزر ) بالضربة القاضية في الجولة الثانية من مباراتهما معا .. كان قويا كثور .. شابا .. لم يُهزم من قبل .. وكان ( علي ) أكبر سنا .. ومتوترا .. ومشتاقا للقب ..

عُرفت المباراة باسم ( ضجيج في الغابة ) أو (Rumble in the Jungle )  نظمت في كينشاسا في زائير – الكونغو حاليا –  , وتم عمل دعاية لها لم يسبق لها مثيل حتي أن أرباحها قد تجاوزت العشرة ملايين دولار , وكان هناك اعتماد علي تعاطف جمهور زائير الأفريقي مع الملاكم الزنجي ذو الأصل الأفريقي , وكان هذا اعتمادا في محله .. فقد كانوا يعشقونه ويتتبعون أخباره , وزاد من عشقهم له استفزاز ( فورمان ) للجمهور الأفريقي , فكانو يصرخون طوال المباراة بلغتهم ( علي .. بومايي ) أي ( اقتله يا علي ) , وفي ليلة أفريقية حارة , وأمام آلاف المشجعين , قام ( علي ) بأداء أفضل مبارياته التكتيكية علي الإطلاق , وابتكر اسلوبا جديدا لخوض المباراة , فبسبب الجو الحار .. أدرك ( علي ) أنه لن يستطيع " الرقص " أمام ( فورمان ) طوال المباراة , فظل أمامه يتلقي منه الضربات القوية , ويتفادي بعضها , وكان مدربه يصرخ فيه أن يبتعد عن منافسه ولكن ( علي ) استمر في خطته طامعا في إنهاك ( فورمان ) واستنفاد قوته .. وحدث ما توقعه بالضبط , فقد شعر بخصمه في نهاية الجولة السابعة وقد خارت قواه وضعفت لكماته , فبدأ الجولة الثامنة ( محمد علي ) الذي يعرفه الجميع .. انهال علي ( فورمان ) بسيل من اللكمات الساحقة وسط اندهاش الجميع بما فيهم ( فورمان ) نفسه , وسعادة الجمهور الشديدة , وسعادة ( علي ) شخصيا , فقد نجح تكتيكه في المباراة وهو يعرف أنه في طريقه للفوز باللقب والأهم .. أنه قد استعاد قدرته علي " الرقص " فقدم فاصلا من الرقص علي الحلبة وتفاعل معه الجمهور بأداء الرقصات الأفريقية المرحة معبرين عن سعادتهم بتسيد ( محمد علي ) الواضح للمبارة , خصوصا بعد أن حل التعب بـ ( فورمان ) وبدا غير قادر علي مجاراة ( علي ) في المباراة , ولم يصمت ( علي ) لحظة خلال تلك الجولة " لن تستطيع أن تضربني ..لأنك لا تراني .. سأرقص مثل الفراشة .. الآن أنت تراني .. الآن لا تراني .. سألدغ مثل النحلة .. تظن أنك تستطيع ضربي , ولكني واثق أنك لن تقدر " ,  وجاءت اللحظة التي سدد فيها ( علي ) لكمة صاعقة لمنافسه , أسقطته أرضا وخلعت عنه حزام بطل العالم ليعود مرة أخري إلي أحضان ( محمد علي ) ويصرخ الجمهور فرحا ويهللون , في حين يهمس ( علي ) لحزام بطل العالم : " ياااه .. سبع سنوات غائبا عني .. اشتقت لك كثيرا "  , وكانت ليلة لا تنسي في كينشاسا .

نال علي أثر هذه المبارة لقب " رجل العام الرياضي 1974 "

بعدها بعام واحد كانت مباراة أخري لا تقل شهرة عن " ضجيج في الغابة " وكانت ضد ( جوي فريزر ) للمرة الثالثة , كانت هذه المرة في الفلبين وبالتحديد في مانيلا وأطلق عليها " هزة في مانيلا " أو “Thrilla in Manilla “ والتي فاز فيها ( علي ) في الجولة الرابعة عشرة بعد أن أصيب

 ( فريزر ) إصابات بالغة ورفض مدربه استكماله للمبارة وأعلن انسحابه .

هنا اعتقد الجميع أنه قد وصل لقمة المجد , وأن عليه أن يعتزل .. إلاّ أنه كان له رأي آخر , ظل في الحلبة يدافع عن لقبه طوال ثلاث سنوات أخري خاض فيها عشرة لقاءات فاز فيها جميعا , فقد كان يرفض أن يتنازل عن لقبه الذي أصبح بالنسبة له هو كل حياته , وفي المباراة الحادية عشرة التي خاضها دفاعا عن اللقب وكانت ضد البطل الأوليمبي الشاب ( ليون سبينكس ), خسر ( علي ) اللقب في الجولة الخامسة عشرة ، ولكنه لم يبتعد عن اللقب أكثر من ستة أشهر واستعاده مرة أخري من ( سبينكس ) نفسه ليصبح أول لاعب ملاكمة يخسر اللقب ويستعيده ثلاث مرات محققا بذلك أسطورة في عالم الملاكمة .

أدرك ( علي ) أن الوقت قد حان لاعتزال الملاكمة وبداية مرحلة جديدة من حياته , فاتخذ القرار الصعب جدا علي نفسه في يوليو 1981, تاركا الحلبة بعد أكثر من عشرين عاما قضاها مدافعا عن اللقب لعب خلالها 61 مبارة خسر في خمس منها فقط وفاز في 56 مباراة منها 37 بالقاضية.

تفرغ ( علي ) بعد الاعتزال للاستفاضة في دراسة الإسلام وتعاليمه , وقضاء وقت أكبر مع أولاده الذين لم يحظوا بوالدهم لفترة طويلة , الطريف أن أسماء أبناء وبنات ( محمد علي ) كلها أسماء عربية أصر عليها تأكيدا لهويته الإسلامية , تزوج ( علي ) ثلاث مرات وأنجب سبع بنات هن

( مريم ) و ( رشيدة ) و ( جميلة ) و ( ليلي ) و ( خليلة ) و ( مايا ) وولدان هما ( محمد ) و( أسعد ) , تفرغ أيضا ( علي ) للعمل العام وخدمة المجتمع فاهتم بحقوق الإنسان والمساواة لا سيما بين البيض والسود , وناضل كثيرا ضد العنصرية  , وتُوّج مجهوده في العمل العام باختيار كسفير للأمم المتحدة للسلام في عام 2000 ليتشعب نشاطه وينتشر ولا يقتصر علي الولايات المتحدة فحسب , فزار ( أفغانستان ) وقابل رئيسها ( حامد قرضاي) وحثه علي محاولة التحسين من أحوال شعبه , وبرغم معاناته من مرض (الشلل الرعاش) ”Parkinson’s disease “  إلا أنه لم يتوقف لحظة عن العمل العام , كما أن تكريمه لم ينتهي , فتم تأليف أكثر من عشرة كتب عن حياته , وتمثيل ثلاثة أفلام عنه أهمها ( Ali ) الذي قام ببطولته النجم الأسمر ( ويل سميث ) وترشح لأوسكار أفضل ممثل عن هذا الدور, و اختير كأفضل رياضي للقرن العشرين في استفتاء أجرته وكالة B.B.C , كما فاز بنفس اللقب في استفتاء آخر أجرته محطة ( Sky 1 ) التلفزيونية , ونال شرف إشعال وحمل الشعلة الأوليمبية في أولمبياد أطلانطا 1996, كما نال الدكتوراة الفخرية من جامعة ( كنتاكي ) , أيضاً قلده الرئيس الأمريكي جورج بوش قلادة الحرية في نوفمبر 2005.

يعيش ( محمد علي ) حاليا مع زوجته الثالثة ( لوني ) ويتشاركان معا في العمل الخيري كما أنهما يتابعان المركز الذي أنشأه ( علي ) في مدينته " لويس فيل " للتنمية البشرية وخدمة المجتمع , كما يشاركان في مساعدة مرضي الشلل الرعاش , ومحاولة إيجاد علاج شافي له , ويتبرعان بالملايين كل عام لهذا الغرض .

سبوت لايت:

- سجل ( علي ) ألبوما غنائيا في عام 1964 بعنوان " أنا الأعظم "  “I am the Greatest”

- في أولمبياد أتلانتا 1996  تم منحه ميدالية أولمبية بديلة عن التي فقدها – أو رماها في النهر – عام 1960 وهي المرة الأولي التي يحدث فيها مثل هذا الحدث .

- عبر عن أسفه الشديد عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر قائلاً " أنا مسلم , وأمريكي كذلك , وأنا كأمريكي مسلم أعرب عن حزني الشديد لهذه الهجمات , وأؤكد أن هذا يخالف تعاليم الإسلام , فالإسلام دين محبة وسلام , وأنا لا أستطيع أن أظل صامتا وأنا أري العالم يظن أن الإسلام يأمر بترويع الآمنين "

- ( ليلي ) أصغر بنات ( محمد علي ) احترفت الملاكمة وهي تؤدي بشكل جيد للغاية سيرا علي خطي أبيها .

- دُعي هو و أخوه ( رودلف ) للإسلام في نفس الوقت تقريبا , إلا أن ( رودلف ) أعلن إسلامه قبله وأُطلق عليه اسم ( رمضان ) .

- يُعتقد أن منافسيه يتمنوا لو أنهم قبضوا علي اللص الذي سرق دراجته لينتقموا منه , فلولاه ما نالوا تلك الهزائم .

- أهم وأصدق ما وُصف به علي الحلبة أنه " يرقص كالفراشة , ويلدغ كالنحلة " .

 

من أقواله :


حين رُفض في أحد الوظائف بدعوي أن ذكائه أقل من المطلوب للوظيفة قال " لم أقل أبدا أنني الأذكي .. فأنا الأعظم " .

" إنها الحياة , الحشائش تنمو , الطيور تطير , وأنا أهزم المنافسين "

" الرجل الذي يري العالم في الخمسين كما كان يراه في العشرين , قد ضيع ثلاثين عاما من عمره "

" أنا سريع للغاية , الليلة الماضية ضغطت زر إطفاء النور , وكنت في السرير قبل أن تُظلم الغرفة"

" أشرس قتال خضته في حياتي , كان مع زوجتي الأولي !! "

 

د . تـامـر أحـمـد